
محاولات أفلاطون الثلاث لتحويل الملك إلى فيلسوف يحكم
كان أفلاطون سياسياً بارعاً يراقب الأوضاع السياسية من حوله عن كثب ويحلل وينقد ويضع الأفكار السياسية البديلة مترقباً أي فرصة لتطبيقها، ولكن تلك الفرصة التي كان ينتظرها لم تواتيه ابداً، بسبب الفساد الذي كان يسود أنظمة الدستور والتشريع من وجهة نظره.
هذا الفساد والظلم السياسي والحكم المستبد والقتل بلا حق ( قتل سقراط ) جعلت أفلاطون يبحث عن فكرة بديلة للحكم وهي الملك الفيلسوفوالملك الفيلسوف في فكر أفلاطون هو ذلك الحاكم الذي يتمتع بالمعرفة الفلسفية والسياسية معاً لكي يصل بالمجتمع إلى الحكم العادل والمدينة الفاضلة، فبعد أن أيقن أفلاطون بفساد كل النظم السياسية في عصره مثل النظام الأرستقراطي والنظام الديمقراطي، رأى أن الفيلسوف وحده قادراً على إصلاح الحكم والمجتمع وبسط العدل لذا نادى بفكرة الملك الفيلسوف وسعى نحو تحقيق هذا الحلم.
محاولة أفلاطون الأولى لتطبيق الملك الفيلسوف
عندما كان أفلاطون في مدينة تارنتيوم لزيارة صديقه الحاكم أرخيتاس، التقى حينها في بلاط أرخيتاس بالأمير ديون الذي جاء كرسول من الحاكم ديونيسيوس الأول لعقد معاهدة صلح وتحالف بين أرخيتاس وديونيزيوس.
وعندما تحدث أفلاطون مع ديون حينها توسم فيه استعدادًا لتقبل الآراء الفلسفية والجمع بين العلم والسياسة في آن واحد، وهكذا فان ديون عندما دعا أفلاطون الى سراقوزة ليطبق تعاليمه في السياسة والتربية لم يتردد أفلاطون في انتهاز الفرصة التي كان يحلم بها منذ وقت، وهي تحقيق حلم الملك الفيلسوف
ويختلف المؤرخون حول نوايا أفلاطون في محاولته الأولى إلى صقلية هل كان يهدف الى تطبيق مشروعاته في التربية الفلسفية والحكم على ديون أم على الحاكم الفعلي وهو ديونيسيوس الأول؟
رأى بعض المؤرخين أنه كان يقصد التوجه مباشرة الى الحاكم المطلق دينيسيوس الأول لاقناعه بفلسفته فيضمن أن يقوم بتطبيقها.
ولكن الرأي الأرجح بالنسبة للمؤرخين هو أن أفلاطون كان يستهدف تعليم ديون وهو الأخ الأصغر لديونيزيوس وفي بعض المصادر يقال أنه شقيق زوجة ديونسيوس لما رأى فيه من الحنكة السياسية مما قد يؤهله فيما بعد لتسلم السلطة مباشرة.
والذي يؤيد هذا الراي الأخير من وجهة نظرهم ما ورد في الرساله السابعة لأفلاطون حيث يقول:
"يبدو أنني عندما التقيت ديون في ذلك الحين وكان لا يزال شاباً صغيراً قد عملت دون قصد مني على انهيار الطغيان، وذلك عندما افضيت إليه بآرائي عن أفضل الأمور للبشرية وحثته على اتباعها بصورة عملية؛ فقد تحمس ديون تحمساً شديدا فوق ما عرفته من كل الشبان الذين قابلتهم في حياتي وقرر أن يعيش حياته الباقية بطريقة مختلفة عن أغلبية الإيطاليين و الصقليين، اذ كانت الفضيلة عنده اسمى من الملذات والمباهج الحسية".
ونحن من وجهة نظر نساؤك يا مصر قارئات نتفق مع هذا الرأي الأخير ولكن لا نجعله يقتصر على النية فقط بل الراجح هو أن أفلاطون بالفعل استهدف ديون و قام بتعليمه الفلسفة والتربية السياسية وفي أثناء ذلك حاول مع الملك بطريقة غير مباشرة ولكنه لم يتقبل آراء أفلاطون السياسية، فعزف عنه أفلاطون، وبما أن أفلاطون يتمتع بالحث السياسي فقد كان يُعلم ديون وفي نفس الوقت يراقب نظام وإسلوب الحكم الذي يتبعه الملك؛ وعندما وجده يتسم بالجبروت والظلم والطغيان اعترضه أفلاطون وانتقد نظام حكمه وعنفه ودعاه للصواب وهنا بدأ الخلاف،وهذا من وجهة نظرنا.
دبر الملك لأفلاطون مكيدة للتخلص منه، يقول المؤرخ بلوطارخس إن الحاكم ديونيسيوس الأول اتفق مع سفير اسبرطة ويدعى فوليس على أنه إما أن يقتل أفلاطون أو يبيعه في الطريق وذلك أثناء سفره على متن سفينة، فاختار فوليس أن يبيع أفلاطون مثل العبيد في مدينة إيجينا.
و لكن كيف نجا أفلاطون من الأسر والعبودية؟ هنا نجد الإجابة عند الفيلسوف المؤرخ ديوجينيس لايرتوس حيث يقول أن أنيقيرس القوريني وفي بعض المصادر يدعى أنيسريس Anniceris كان في إيجينا فاشترى أفلاطون بثلاثين ميناي(عملة أثينية) ثم أرسله إلى أثينا.
بعد تلك المحاولة الأولى لتطبيق الملك الفيلسوف عاد أفلاطون إلى أثينا وبدأ في إنشاء وتشييد الأكاديمية، بهدف تدريس الفلسفة نظرياً حتى يستطيع من خلالها تخريج مجموعة من الرجال الذين يجمعون بين الفلسفة والسياسة وبذلك يكون لهم القدرة على تطبيق نظريته في الملك الفيلسوف وفقاً للمباديء المثالية للعدالة.
محاولة أفلاطون الثانية لتطبيق الفيلسوف الملك
جاءت المحاولة الثانية لتحويل الحاكم إلى فيلسوف، حيث قام أفلاطون بزيارته الثانية لصقلية بعد مرور عشرين عاماً على زيارته الأولى، وجاءت هذه الزيارة بعد أن توفي الحاكم ديونيسيوس الأول الطاغية وتولى الحكم من بعده ابنه ديونسيوس الثاني.وكان سبب الزيارة أن دعاه ديون وهو عم الحاكم ديونيسيوس الثاني لزيارة صقلية بهدف تعليم الشاب ديونيسيوس الثاني الفلسفة والحكمة و التعاليم الأفلاطونية في إصلاح نظام الحكم.
تردد أفلاطون كثيرا في قبول الدعوة، ولكنه في النهاية أقدم على المخاطرة في محاولة منه لتحقيق حلمه في صناعة الحاكم الفيلسوف، وكانت تلك الزيارة عام 366 ق.م، واضطر لقبول الدعوة لأسباب عدة ذكرها في الرسالة السابعة ص ١٣٣ يقول:
"مع أنني ترددت بين قبول الدعوة أو عدم قبولها وأخذت اقلب الأمر من كل ناحية، فقد بدا لي في النهاية أن هناك أسباب كثيرة ترجح أمامي الآن وجود حالة يتحتم فيها الإقدام على المخاطره، هذا إذا شاء أحد على الإطلاق أن يحاول وضع آرائه عن القانون ودستور الحكم موضع التنفيذ في الواقع الملموس. فقد كنت الآن بحاجه الى إقناع إنسان واحد بآرائي لكي أحقق كل الخير الذي قصدت اليه. هكذا غادرت وطني بعد أن شجعتني هذه الأفكار على الإقدام على المخاطرة؛ ولم تكن الدوافع التي حركتني الى ذلك كما تصور بعض الناس؛ بل كان الدافع الأساسي هو خوفي من الشعور بالخجل من نفسي وخشيتي من أن أبدو في عيني مجرد رجل نظري عاجز عن إنجاز فعل واحد وأن أقع في شبهة الخيانة لوفاء ديون وكرم ضياقته، وذلك في وقت كان فيه يتعرض لخطر لا يقل عن الخطر الذي يمكن ان أتعرض له"
بعد فترة من مكوث أفلاطون لتعليم ديونيوس الثاني أساليب الحكم الفلسفية الأفلاطونية بدأت الأمور السياسية في التعقيد إذ ظن الحاكم الشاب أن ديون و أفلاطون يتآمران عليه واتهمهما بذلك علناً.
ونتيجة لهذا الإتهام والظن قام ديونيسيوس بنفي وإبعاد ديون إلى إبطاليا، لكن أفلاطون حاول التأثير على الملك الشاب من أجل عودة ديون من المنفى، لكنه فشل.كما رفض ديونيسيوس رحيل أفلاطون من صقلية، وبذلك ظل أفلاطون هناك كالمسجون لا يملك لنفسه حرية التصرف و بعد عدة محاولات استطاع أفلاطون أن يقنع الملك الشاب بضرورة العودة إلى أثينا.
ووعده بالعودة إلى صقلية عند تحسن الأوضاع السياسية، وعندما يعود عمه ويعقد صلحاً مع القرطاجيين، فوافق الملك وبذلك تمكن أفلاطون مرة ثانية من مغادرة صقلية والعودة سالماً.محاولة أفلاطون الأخيرة لتحقيق حلم الملك الفيلسوف
جاءت المحاولة الثالثة والأخيرة لأفلاطون لتحقيق حلم صناعة الحاكم الفيلسوف عند رحلته الثالثة إلى صقلية، و أقدم أفلاطون على تلك الزيارة عام 361 ق.م لأن الحاكم الشاب ديونيسيوس الثاني دعاه مرة أخرى إليه لتعليمه.
هناك سبب جعل أفلاطون يقبل تلك الدعوة وهو أن ديونيسيوس قد أرسل إلى أفلاطون خطابا مطولا يعده فيه بالإستجابه الى كل مطالبه اذا لبى دعوته بالرجوع الى صقلية ويهدده فيها بالمقابل بابقاء ديون في المنفى في حال رفض الدعوة. المصدر من الرسالة السابعة ص١٥٥
ويبرر أفلاطون قبوله لتلك المحاولة كما جاء على لسانه في الرسالة السابعة ص١٥٥ يقول فيها:"وجاءتني كذلك خطابات أخرى من أرخيتاس و الأصدقاء في تارنتيوم، وكلها تشيد بتقدم ديونسيوس في الفلسفة وتشير إلى أنني إن لم أحضر على الفور فسوف أعرض للخطر الشديد العلاقات الصداقة التي اقمتها بنفسي بينهم وبين ديونوس وهي في نظرهم علاقات ذات أهمية قصوى".قضى أفلاطون في تلك الزيارة الأخيرة فترة شعر بعدها أن تلك المحاولة الأخيرة لتطبيق فكرة الحاكم الفيلسوف ستبوء بالفشل مثل سابقثيها وذلك لعدة اسباب أهمها:
لم يستعدعه الحاكم ديونيسيوس سوى مرة واحدة لإجراء حوار فلسفي يسمح له بالتعليم.
لم ينفذ الحاكم الوعد الذي قطعه لأفلاطون من المرة السابقة برجوع عمه ديون من المنفى.
كما وجد أفلاطون أن الاحوال السياسية للبلاد كما هي لم يلحظ فيها أي إصلاح.
وجد افلاطون نفسه كطير مسجون في قفص لا يستطيع التحرك والسفر من صقلية إلا بإذن الحاكم، وأصبحت حياته معرضة للقتل.
و لكن في النهاية نجد أن أفلاطون قد نجا هذه المرة أيضا بإعجوبة إذ تدخل صديقه أرخيتاس وتوسط لأفلاطون لدى ديونيسيوس، وبذلك استطاع أفلاطون أن يغادر صقلية إلى أثينا بلا رجعة عام 360 ق.متأثير تلك المحاولات الفاشلة على فكر أفلاطون في مسألة الملك الفيلسوف
بعد المحاولة الأولى عاد أفلاطون إلى أثينا بعد غياب دام لمدة ١٢ عاما من الترحال وبدأ في إنشاء وتشييد الأكاديمية، بهدف تدريس الفلسفة نظرياً حتى يستطيع من خلالها تخريج مجموعة من الرجال الذين يجمعون بين الفلسفة والسياسة وبذلك يكون لهم القدرة على تطبيق نظريته في الملك الفيلسوف وفقاً للمباديء المثالية للعدالة ومنهم هيرافليد و أودوكس و أرسطو.بعد تكرار المحاولات وفشل تجربة و تطبيق فكرة الملك الفيلسوف شعر حينها أفلاطون بمرارة الخيبة والخذلان، وتأكد من أن النظم السياسية والدساتير والشرائع التي تسود في ذلك العصر مريضة وفاسدة وتحتاج إلى معجزة لإصلاحها.
لم يحاول أفلاطون خوض تلك التجربة بعد ذلك وأصبح معلماً وفيلسوفاً في الأكاديمية لمدة أربعين عاماً، تخلى خلالها أفلاطون عن مثاليته السياسية والفلسفية وسيادة الفلسفة التى وضعها للملك الفيلسوف في كتابه الجمهورية، وبدلاً منها وضع سيادة القانون في كتبه التي ألفها مؤخراً وهى كتاب السياسي وكتاب القوانين.سؤال للنقاش والفكر
أنا أعلم جيداً أن أفلاطون لم يكن ملكاً أو حاكماً ولكنني أعلم أيضاً أنه ينحدر من أسرة أرستقراطية شارك بعض عناصرها في الحكم، كما أن أفلاطون كان سياسياً حاذقاً عالماً بكل أنظمة الحكم، بالإضافة إلى كل ذلك فهو فى الأول والآخر فيلسوف، أي أن كل الشروط والعوامل متوفرة في شخص أفلاطون، انظر الشاب أفلاطون السياسي
فهل فكر أفلاطون أن يقوم بتطبيق تلك الفكرة على نفسه أو حتى خطرت على باله؟ وكيف له يقطع الفيافي والبلاد لكي ينشيء ويربي حاكماً فيلسوفاً ويفشل عدة مرات في حين أن الحل موجود لديه ويمتلكه؟ وهل حاول لكن نظام الحكم منعه من ذلك؟
خاتمة
يعد الفيلسوف أفلاطون أنموذجاً من أهل الفكر والفلاسفة الذين تركوا من خلفهم شعلة تضيء طريق كل مَن يرغب في إحداث تغيير في هذا العالم، وتلك المحاولات الأفلاطونية لتحقيق نظرية الملك الفيلسوف على أرض الواقع رغم فشلها إلا أنها أعظم مثال على السعي الدؤوب نحو تحقيق هدف وفكرة نؤمن بها مهما كانت صعوبتها.
مصادر
الرسالة السابعة أفلاطون ص١٣٣
الرسالة السابعة أفلاطون ص١٥٥
كتاب أفلاطون-- سيرته وفلسفته --سلسلة الأعلام من الفلاسفة--إعداد احمد شمس الدين