قصة محنة ابن رشد والأسباب الحقيقة والخفية وراء حدوثه، نعرف جميعاً من كتب التاريخ أنه ما من عالم أو مفكر على مر العصور إلا وتعرض للتنكيل والإضطهاد والتاريخ حافل بالكثير من هؤلاء الذين أوذوا إما لأسباب سياسية أو دينية أو إجتماعية أو قد ترجع للغيرة والحسد، والمقالة للباحثين عن محنة ونكبة الفيلسوف الأندلسي ابن رشد .
.webp)
.webp)
فما هي الأسباب والدوافع التي دفعت الخليفة لتنكيب ابن رشد؟! وكيف بدأت محنة ابن رشد؟ وما هي أحداث تلك المحنة ؟وما موقف ابن رشد منها؟ وكيف انتهت المحنة؟ كل ذلك سوف نتعرف عليه في تلك المقالة.
أسرار نكبة الفيلسوف ابن رشد والأسباب الحقيقة لها
تعرض ابن رشد لمحنته وهو في سن السبعين من عمره وكان ابن رشد في ذلك الوقت قد علا نجمه لسعة علمه وعلو شأنه في الفقه والشريعة والقضاء وتآليفه الغزيرة في الفلسفة، وعلى الرغم من أن ابن رشد كان مقرباً من الخليفة ويؤثره على غيره من العلماء إلا أن الخليفة تسبب له في محنة شديده.لكن قبل الخوض في تفاصيل محنة ابن رشد تعالوا نستعرض أولا الموقف الذي بسببه درس ابن رشد فلسفة أرسطو والذي يعد الأب الروحي لإن رشد في الإتجاهات والأفكار الفلسفية التي عُرف بها ابن رشد.
قصة إهتمام ابن رشد بدراسة الفلسفة
حفظت لنا كتب التاريخ السبب أو الموقف الذي جعل ابن رشد يتجه لدراسة الفلسفة وخاصة فلسفة أرسطو نقلاً عن الفقيه أبي بكر يندود يحيي القرطبي وهو من تلاميذ ابن رشد أن سبب اشتغال ابن رشد بالفلسفة يرجع إلى أن ابن طفيل دعى ابن رشد لمقابلة أمير المؤمنين أبي يعقوب لأن الأمير أبلغ ابن طفيل أنه يريد قراءة فلسفة أرسطو لكنه يشكو من عدم فهم عبارة أرسطو أو المترجمين عنه.في ذلك الوقت كان ابن طفيل قد طعن في السن فطلب من ابن رشد قضاء تلك المهمة وكان نص كلامه له كالتالي: " لو وقع لهذه الكتب من يلخصها أو يقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وقوة نزوعك إلى الصناعة."
مكانة ابن رشد عند الخليفة المنصور بالله قبل المحنة
المنصور بالله هو الخليفة يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي وهو الخليفة الرابع من دولة الموحدين والتي تأسست بمدينة سوس في القرن السادس سنة ٥١٥ من الهجرة على يد محمد بن تومرت المسمى بالمهدي.تولى يعقوب الحكم بعد أبيه سنة ٥٨٠ هجرية وكان عمره آنذاك اثنتين وثلاثين سنة، واستمرت مدة ولايته ستة عشر سنة وثمانية أشهر وتوفي عن عمر ثمان وأربعون سنة في عام ٥٩٥ هجرية.
كان الخليفة المنصور في سنوات حكمه الأولى محباً للفلسفة والفلاسفة وكان هذا السبب كافياً لجعل ابن رشد من المحظيين لدى الخليفة فكان يقربه منه ويستشيره في كافة أموره وشؤون الدولة.
ونال بذلك ابن رشد محبة وثقة الخليفة ووصل الأمر بينهما إلى حد رفع الكلفة حتى أن ابن رشد كان يخاطب الخليفة أثناء الحديث قائلاً له " إسمع يا أخي"، وبالطبع فإن تلك المكانة التى حظي بها ابن رشد لدى الخليفة جعلت له العديد من الكارهين والأعداء.
بداية محنة ابن رشد وأحداثها والحكم عليه
حاول أعداء ابن رشد عدة مرات النكاية به لدى الخليفة لكن الخليفة فى ذلك الوقت كان محبا للفلسفة والفلاسفة ويجاهر بذلك، مما أدى إلى فشلهم فى زعزعة حب الخليفة لإبن رشد والتقلب عليه.في آخر فترات حكم الخليفة المنصور بالله اتجه إلى التصوف واللجوء إلى الزهاد والأولياء وخلال تلك الفترة عزف الخليفة عن حب الفلسفة والفلاسفة، فوجد بذلك أعداء ابن رشد الفرصة أمامهم سانحة لإنصراف الخليفة للتصوف وبدأوا حربهم ضد ابن رشد.
يقال أنه بذريعة الدفاع عن الدين تألبوا على ابن رشد عند الخليفة وأوغروا صدره على أبي الوليد ابن رشد وذلك بعد أن جاءوا من كتب ابن رشد ما يثبت حجتهم ضده، ولكي تنجو شريعة الإسلام بحسب ظنهم طلبوا من الخليفة إهراق دم ابن رشد.
ومن أهم الذين تسببوا في محنته: القاضي أبو عامر يحيى ابن أبي الحسين والقاضي أبو القاسم والقاضي أبو الحسين والقاضي أبو عبد الله والخطيب أبو علي ابن حجاج وغيرهم.
بعد أن أستمع المنصور لأعداء ابن رشد أخذته الحمية على الدين والشريعة كما صوروا له فأمر المنصور على الفور أن يجتمع الطلاب والفقهاء بالدولة ويحضروا بجامع المسلمين لتعريف الملأ أجمع بأن ابن رشد قد خالف الشرع ويستحق العقاب واللعنات هو ومن معه.
وكان من بين أصحاب ابن رشد الذين جمعتهم المحنة العديد من الفقهاء أمثال الفقيه ابو عبد الله بن ابراهيم الاصولي والفقيه أبو جعفر الذهبي وأبو الرابع الكفيف وأبو العباس الحافظ الشاعر القراي.
حضر الجميع وكذلك ابن رشد وأصحابه إلى الجامع الأعظم بقرطبة في وجود الخليفة، وألقى القاضي أبو عبد الله ابن مروان خطبة كانت أشبه بإثبات التهمة على المتهمين بأن ابن رشد وأصحابه قد خالفوا عقيدة المسلمين بإشتغالهم بالفلسفة وعلوم الأوائل وأنهم قد مرقوا في الدين.
وتم الحكم على ابن رشد بالنفي إلى قرية اليسانة التي تنسب لليهود لأن أعداء ابن رشد زعموا أن ابن رشد مقطوع النسب في قبائل الأندلس وأن نسبه يعود إلى بني إسرائيل.
ولم يكتفِ أعداء ابن رشد بذلك بل حرضوا الخليفة أن يأمر بكتابة منشور بما حدث لإبن رشد وللتشهير به تم ذيوع المنشور في سائر البقاع بالدولة، بل وتجرأ عليه أحد الشعراء وقام بنظم القصائد في ذم ابن رشد والطعن فيه.
وبالطبع فإن الفيلسوف الذي يحكم عليه بالنفي والقذف بسبب أفكاره فلا بد لتلك الأفكار أن تندثر، لذلك قاموا بتجميع كل أعمال ابن رشد وعملوا على حرقها أمام عينيه وعلى مرأى ومسمع الجميع من العامة والطلاب والعلماء ورجال الدين.
الأسباب الحقيقية لمحنة ابن رشد
تعددت آراء المؤرخين بعد تحليل نكبة ابن رشد حول الأسباب الحقيقية التي أدت إلى محنة ابن رشد، هل كانت بدافع الغيرة والحسد والحقد على رجل مفكر ذاع صيته ونال من الشهرة المكانة العظمى؟! أم كان للنكبة أسباب في ظاهرها دينية وفي بواطنها أخرى سياسة وإجتماعية؟!والمتأمل لحال ابن رشد ومظاهر تلك النكبة ووضع الأندلس الثقافي في ذلك الحين وكذلك الأفكار السائدة يجد أن العوامل والأسباب والتكنهات التى ذكرناها في الفقرة السابقة اشتركت جميعها في حدوث النكبة الرشدية.
فالمكانة التي وصل لها ابن رشد في مجتمعه ورفعته على كل أقرانه وقربه من الخليفة جميعها تثير في النفوس الضعيفة الحقد والحسد والغيرة، وكان هذا سبباً كافياً لإلباس الشكوى ثوب الدين والشريعة والخوف من أفكاره.
وإذا فتشت عن حال الأندلس لوجدتها أعظم مدن الإسلام حينها في الثقافة والمعرفة والحث على البحث واقتناء الكتب ولكن رغم ذلك كان هناق تضييق على الفلسفة ورجالها حتى أن المشتغل بها لا يستطيع أن يظهر ذلك للعامة وإلا تحرق تصانيفه ويتهم بالزندقة والإلحاد فالمشتغل بالفلسفة يشبه عندهم المشتغل بالتنجيم، وينتشر ذلك بين أفراد المجتمع والعامة خاصة أما الخلفاء فكانوا يحبون قراءة الكتب الفلسفية والتزود منها كما هو حال الخليفة أبي يعقوب وابنه المنصور في أوائل حكمه.
وهناك رأي للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن مخالف لما سبق في أسباب محنة ابن رشد، حيث يعزي طه عبد الرحمن حدوث تلك المحنة لإبن رشد ليس لجرأة أفكاره وشذوذها عن المجتمع الإسلامي بالأندلس بل يعود إلي الشذوذ في العبارة لركاكتها لأنها لم تستجب لمقتضى التعبير العربي مما أدى إلى إستغلال النص على الأفهام وغياب المضمون الفلسفي وهو ما يسمى قلق العبارة.
ويستدل الفيلسوف المغربي على صحة رأيه بأن الفكر الصوفي هو أكثر عمقاً وأقوى جرأة حتى على العقيدة والفكر فلماذا لم يُحاضر أهله أو إضطهادهم كما هو الحال مع الفلسفة، ويعلل طه عبد الرحمن ذلك بأن الصوفية وظفوا مختلف إمكانات التعبير في اللغة العربية حتى ينفذوا إلى سمع المتلقي وفكره وقلبه.
كيف واجه ابن رشد محنته
يقول المؤرخون أن كتب التاريخ لا تذكر أن ابن رشد طلب الدفاع عن نفسه وكذلك لم يطلب منه الخليفة أن يدافع عن نفسه، وهذا يعني أن ابن رشد قد حُرم من حقه في الدفاع عن نفسه وهذه جناية فادحة لطالما تعرض لها أهل الفكر على مر العصور، ويمكننا أن نتذكر في هذا الموقف الفيلسوف سقراط.يقال عن ابن رشد أن أقسى ما أصيب به إبان محنته هو تألب العامة عليه وعلى ولده الإعتداء عليهما بالقذف والشتم، وأخبر أبو الحسن بن قطرال عن ابن رشد أنه قال " أعظم ما طرأ علىّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجداً بقرطبة وقد حانت صلاة العصر فثار لنا بعض سفلة العامة وأخرجونا منه."
وأشد ما يثير الدهشة هو موقف ابن رشد من حرق كتبه التي اضني عمره كله فيها حيث كان أحد طلابه في خضم هذا الموقف الأليم يبكي على هذا المشهد الذي يلتهم عصارة فكر ابن رشد طيلة سنين عمره، فرق ابن رشد للطالب وقال له مقولته الشهيرة: " إن كنت تبكي لحال المسلمين فاعلم بأن البحار لن تفكيك دمعاً، وإن كنت تبكي لإحتراق الكتب فاعلم بأن للأفكار أجنحة. "
نهاية المحنة والعفو عن ابن رشد
انتهت محنة ابن رشد بالعفو عنه بعد أن ذهبت جماعة من الأعيان بإشبيلية للخليفة وشهدوا على أن التهم والإفتراءات التي نسبت إلى ابن رشد غير صحيحة وأنه بريء منها لأن حياة ابن رشد زاخرة بالعلم والتقوى والعمل، فرق قلب الخليفة المنصور ورضي عن ابن رشد وعن كل أصحابه الذين كانوا معه في النكبة.عاد ابن رشد مرة أخرى إلى مراكش وقربه الخليفة إلى جواره وقام بمحو أثر المنشور الذي كتبه ليقدح به ابن رشد في أوائل المحنة قبل النفي، ويرجح المؤرخون أن مدة العقوبة والنفي لإبن رشد أثناء نكتبه وحتى العفو عنه لم تتجاوز سنة واحدة.
بعد عام من العفو عن ابن رشد خرجت روحه لبارئها وسكن هذا العقل الذي لم يكل من البحث والإطلاع وحب التعلم في كل فروع العلم وكانت وفاته في مراكش يوم الخميس من شهر صفر سنة ٥٩٥ من الهجرة ثم نقلت جثته من مراكش إلى قرطبة ودفن في مدافن أجداده بمقبرة ابن عباس.
وهناك رأي آخر يقول أنه دفن بجبانة باب تاغزوت خارج مراكش ثلاثة أشهر وذلك في أول دولة الناصر لأن الخليفة المنصور توفي بعد ابن رشد بشهر واحد.
وختاماً فقد تناولنا في تلك المقالة قصة محنة ابن رشد والأسباب الحقيقة وراء حدوثها وبينا في تضاعيف تلك المقالة السبب وراء دراسة ابن رشد لفلسفة أرسطو وكذلك مكانة ابن رشد لدى الخليفة قبل النكبة وأيضا أحداث المحنة التى تعرض لها ابن رشد وبينا الأسباب المختلفة لحدوث المحنة ثم ختمنا المقالة بالعفو عنه والوفاة.
وإذا كنت وصلت إلي ختام مقالتنا نود أن نسألك بعد قراءة المقالة عن رأيك الشخصي في سبب محنة ابن رشد هل هو سياسي أم ديني أم لغوي أم أنه حسدا وحقدا؟!
المصادر
المصادر
- كتاب ابن رشد الأندلسي فيلسوف العرب والمسلمين _ سلسلة أعلام الفلاسفة من تأليف كامل محمد محمد عويضة.
- كتاب تاريخ فلاسفة الإسلام من تأليف محمد لطفي جمعة.
- كتاب ابن رشد للعقاد.
- كتاب الحوار أفقاً للفكر من تأليف الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن.
- ويكبيديا.