
يعد الفيلسوف ابن رشد هو أعظم فلاسفة المسلمين قاطبة فى الوقت والعصر الذي كان يعيش فيه، وقد عاش ابن رشد حياة مليئة بالعلم والإطلاع والتحصيل الدؤوب والتنقيب فى مختلف المعارف وخاصة الفلسفية منها.وفى تلك المقالة سوف نتعرف على نشأة وتعليم ابن رشد والوظائف التي تقلدها واهتماماته وشروحه لفلسفة أرسطو وكذلك نتعرض لنكبته بشيء من الإيجاز.
حياة الفيلسوف ابن رشد الشارح الأكبر لأرسطو من النشأة للنكبة
كانت حياة الفيلسوف ابن رشد من النشأة وحتى النكبة زاخرة بالسعي الدؤوب نحو المعرفة بشتى صنوفها وله الكثير من المناقب والإجتهادات في مختلف المجالات المعرفية والفلسفية والطبية والفقهية، ولكن قبل التطرق لتلك المجالات والدراسات الرشدية علينا أولاً أن نستعرض حياة هذا الفيلسوف.نشأة الفيلسوف ابن رشد وتعليمه
الفيلسوف ابن رشد هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي المعروف بإبن رشد الحفيد وهو من مواليد قرطبة بالأندلس عام ٥٢٠ من الهجرة الموافق لعام ١١٢٥ ميلادية.كان جده من كبار الفقهاء ويعمل بالقضاء ومتقدمأً على أهل زمانه في الفتوى والفقه على مذهب الإمام مالك، وكان والد ابن رشد أيضا قد عمل مثل أبيه بالفقه والقضاء.
دراسة ابن رشد الفقه وعلم الكلام
وأما عن تعليم ابن رشد فقد أخذ ابن رشد الفقه عن أبيه واستظهر عليه كتاب الموطأ حفظاً، وكما درس ابن رشد الفقه على والده فقد درسه وأخذه أيضا عن العديد من علماء عصره آمثال أبي القاسم بن بشكوال وابي مروان بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز وأبي عبد الله الماذري.ونتيجة لتلك الدراسة المكثفة التي تلقاها ابن رشد للفقه أن أصبح على رأس الفقهاء جميعاً في عصره وعلو مكانته في الفقه حينها وخاصة بعد أن قام بتأليف كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه والذي دَل على غزارة علم ابن رشد .
ثم تعمق ابن رشد بعد ذلك في دراسة علم الكلام وقد أدت به تلك الدراسة المتعمقة في هذا الباب من العلم إلى تمكنه من نقد آراء ومذاهب علماء الكلام وتفنيد رؤاهم.
وخلال سنوات طوال من الإطلاع والدراسة نجد أن ابن رشد جمع بين العديد من المجالات والميادين العلمية نتيجة الجهد وحب المطالعة دون كلل أو ملل حتى قال عنه ابن الأنبار إنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحواً من عشرة آلاف ورقة.
دراسة ابن رشد للطب
وبالنسبة لدراسة ابن رشد للطب فقد اهتم اهتماماً بالغاً بالطبع وقام بتأليف العديد من الكتب في مجال الطب ومن أهمها كتاب الكليات وهو كتاب يجمع كل الأحكام الطبية وقام بترجمته شخص يهودي من باذوا يدعى بوناكوس وكان الغرب في أوروبا يطلقون على الكتاب اسم Colliget.وقد درس ابن رشد الطب كشيء كلي كما هو موضح في عنوان الكتاب الكليات الذي وضعه في الطب أي أنه درس الأمراض دراسة عامة دون أن يخوض في تفاصيلها، ولكن هذا لا يدل على أنه لم يهتم بالمسائل الجزئية في الطب لكنه قام برد الجزء إلي الكل بهدف التيقن منه واستطاعة البرهنة عليه ثم أتبعه بكتاب آخر يشتمل على الأمور الجزئية في الطب وجاء ذلك بطلب من صديقه أبا مروان عبد الملك بن زهر وهو من كبار أطباء عصره.
وفي مجال الطب أيضا اهتم ابن رشد بدراسة العلاقة بين الطب والعلم الطبيعي ومن أهم ما قاله ابن رشد في ذلك أن الطب صناعة تؤخذ مبادئها من العلم الطبيعي ولكن العلم الطبيعي هو علم نظري أما الطب فهو علم عملي.
دراسة ابن رشد للفلسفة الأرسطية
اهتم ابن رشد في دراسته اهتماما بالغا بالفلسفة اليونانية وخاصة فلسفة أرسطو، فقام بشرح وتلخيص كل ما استطاع أن يضع يده عليه من مؤلفات وفلسفة أرسطو، ولأنه لم يكن يعرف اليونانية فقد اعتمد في شروحه على ترجمات أشهر المترجمين في ذلك الوقت مثل حنين بن إسحاق وإسحاق بن حنين وأبو بشر متى.وكان ابن رشد يقوم بمقابلة هذه الترجمات ببعضها البعض حتى يتأكد ويضمن أنه حصل على الترجمة الصحيحة لأنه يضع في مخيلته احتمال وقوع بعض المترجمين في الخطأ وحتى ينقي فلسفة أرسطو مما اختلط بها من فلسفة أفلاطون.
ونجد أن ابن رشد قد هاجم كل من ينكر أهمية الفلسفة والفلاسفة لأن الفلاسفة من وجهة نظره لا يقصدون الغلط بل الحق، فكان ابن رشد من أكثر الفلاسفة المسلمين مثل الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل تمسكاً والتزاماً بالإتجاه العقلي وخصائص الفكر الفلسفي.
ونجد أن فلسفة ابن رشد تتميز بأنها دمجت بين عنصرين أساسيين هما: مذهب أرسطو والعقيدة الدينية وقد استخدمهما ابن رشد في جميع آرائه في الوجود والمعرفة واتفاق العقل والشرع وغيرها.
شروح ابن رشد لفلسفة أرسطو
كان الفيلسوف أرسطو يُلقب في العصور الوسطى عند جميع الأمم بلقب المعلم الأول لذا اجتهد فلاسفة المسلمين الذين سبقوا ابن رشد في شرح فلسفة أرسطو أمثال الفارابي وابن سينا والكندي، وكانت أعمالهم وشروحهم هي أبرز أعمال العصر الوسيط لفلسفة حكيم اليونان أرسطو.ولكن ابن رشد اكتشف أن هؤلاء الفلاسفة من المسلمين قد وقعوا في خطأ غيرهم حيث خلطوا بعض فلسفة أرسطو بفلسفة أفلاطون ومن وجهة نظره أنهم قاموا بالتوفيق بين الفلسفتين فيما لا يمكن التوفيق فيه ابداً على حد قوله.كما يرى أنهم نسبوا إلى أرسطو العديد من المؤلفات التي لا تتفق مع فكر أرسطو وأقواله.
ومن هنا يأتي دور ابن رشد حيث يعود الفضل إليه في تجديد معالم الفلسفة الأرسطية، وقدم في شروحه دراسة نقدية لما أخطأ فيه الشراح من قبله حتى لُقب ابن رشد بالشارح الأكبر لفلسفة أرسطو لانه الفيلسوف الوحيد الذي تمت على يديه شرح كل أعمال أرسطو وقد جاء شرح ابن رشد كخاتمة لعدة شروح ومحاولات سابقة لفلسفة أرسطو لكن لم يستطع أحد منهم أن يبلغ فيها ما بلغه ابن رشد.
مقارنة بالفلاسفة الذين سبقوا أرسطو والذين جاءوا بعده نجد أن ابن رشد قد فضل أرسطو على غيره من الفلاسفة واختصه بتلك الشروح ولذلك أُطلق عليه الشارح وخاصة في أوروبا حيث كان لإبن رشد الفضل في الترويج لفلسفة أرسطو ولم يتعرف علماء وفلاسفة أوروبا على كتابات أرسطو إلا من خلال شروح ابن رشد، ولذلك كرمته جامعة بادو منذ قرون ومنحته رسمياً لقب روح أرسطو وعقله.
قد تناول ابن رشد شرح فلسفة أرسطو في ثلاثة أنواع من الشروح هي: الشرح الأكبر والشرح الأوسط والتلخيصات؛ ففي الشرح الأكبر كتب ابن رشد شرحاً مطولاً لفلسفة أرسطو، أما في الشرح الأوسط فقد شرح فلسفة أرسطو شرحاً متوسطاً بين الإطناب والإيجاز، وبالنسبة للتلخيصات فقد شرحها شرحاً موجزاً.
وبذلك نجد أن ابن رشد قد دفع بالفلسفة العربية والإسلامية للقمة لنحو لم تشهده من قبل ليختم بفلسفته عصر إزدهار الفلسفة العربية والإسلامية بالعصور الوسطى لأنه اطلع على كل أعمال الذين سبقوه وقدم لها الدراسات النقدية مضافاً إلى زاده الغني من فلسفة أرسطو.
وظائف تقلدها ابن رشد
تقلد ابن رشد وظيفة القضاء في العديد من بلاد الأندلس وكان منصب القاضي في ذلك الوقت هو أرفع المناصب وأعلاها شأناً.تولى ايضاً ابن رشد منصب قاضي القضاة في أيام الخليفة يوسف بن عبد المؤمن في أشبيلية.
كان الناس في عصره يلجأون إليه من أجل المشورة وأخذ الفتوى الطبية حتى تولى منصب الطبيب الخاص للخليفة يوسف.
احتل ابن رشد المقام الأول بين علماء الأندلس في ذلك الوقت.
نكبة الفيلسوف ابن رشد ووفاته
تعرض الفيلسوف ابن رشد في أُخريات حياته لنكبة شديدة حيث أوشى به أعداؤه والحاقدين عليه وحساده عند الخليفة المنصور وأوغروا قلب الخليفة على ابن رشد بحجة أنه يناقد تعاليم الإسلام واتهموه بالزندقة والكفر، فأمر الخليفة بحرق كتبه ونفيه إلى قرية اليسانة بالأندلس والتي تنسب لليهود تحقيراً له.
وبعد أعوام من النفي والمهانة ندم الخليفة على ما فعله لإبن رشد ورجع عن قراره وأعاده إلى مراكش بالمغرب وأحسن إليه لكن ما لبث أن توفي ابن رشد بعد ذلك ودفن فى مراكش ثم تم بعد ذلك نقل رفاته إلى بلده الأم بالأندلس وكان ذلك عام ٥٩٥ من الهجرة الموافق لعام ١١٩٨ ميلادية.
وختاماً فقد خصصنا تلك المقالة لمحبي الفلسفة والباحثين عن الفيلسوف ابن رشد الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو وتناولنا فيها حياة ابن رشد من النشأة وحتى النكبة وتعرفنا خلالها كيف نشأ ابن رشد في أسرة تتولى القضاء ثم عرضنا بعد ذلك لتعليم ابن رشد للفقه والطب والفلسفة وتناولنا في تضاعيف المقالة شروح ابن رشد لأرسطو بإيجاز ثم عرضنا بإختصار لنكبة ابن رشد وحرق كتبه ووفاته.