
إبرة وخيط وحكاية القيمة الحقيقية للأشياء فى النفس البشرية
فى الدور الرابع وفى تلك الغرفة الصغيرة التى أقضى فيها وقت الفراغ مع بعض المعلمات إما بين الحصص أو وقت الفسحة المدرسية ، فى ذلك الوقت من اليوم الدراسى أنهيت عملى وولجت للغرفة فلم أجد بها أى منهن فجميعهن فى الفصول.
كنا فى نهاية اليوم الدراسى فى الحصة الأخيرة ، فقلت لنفسي إن هذا الهدوء يجب أن يقترن بعادة القراءة لِما للقراءة من فوائد داخل نفسي وروحي، وبالفعل بدأت بها وإندمجت حتى لم يتبق سوى دقائق معدودات على الإنصراف.
وبالفعل قمت بكل ما سبق إلا من الأخيرة وهى إصلاح وضعية النقاب ورغم أنها أهم ما يجب أن أفعله إلا أنها جاءت فى النهاية ....وقمت بحل تلك العقدة أو رباط النقاب وأصلحت وضعيته على رأسى وفى اثناء محاولة ربط الطرفين معاً أو إعادة العقدة مرة أخرى حدث ما لم يكن فى الحسبان أبدا .
إذ تفاجأت أن إحدى الطرفين فى يدى..!!اووه يا إلهي ..!! لقد قُطعت... أى أنها إنفصلت عن النقاب .
ماهذا الهراء !!و الأمر الذى قد زاد الطين بلة هو حدوث الأسوأ ...لقد دق جرس الإنصراف من المدرسة ...إنتهى اليوم الدراسى ..يا للهول!!
لا أستطيع التعبير عما دار فى خُلدي فى تلك اللحظة فأنا بمفردي ...النقاب مقطوع ...الكل يلج من باب المدرسة إلى خارجها ولا يعلم بي أحد ...ماذا عساي أن أفعل ...يا إلهى أنت المغيث أغثني.وأنا فى سَكرة من الذهول ونشوة من عدم تصديق الموقف لا أدرى كم من الوقت قد مَر علىّ وأنا على تلك الحالة فبمقاييس الزمن الذى نعيشه هى بضع دقائق لا غير.
أما بمقاييس ما يدور فى النفس من أوهام بشعة وخيالات كئيبة وهواجس لا حصر لها وأفكار تتوارد على الذهن من هنا وهناك ...فقد مررت بأعوام ثِقال عِجاف إلى أن جاء الغيث من المغيث والفرج من بعد الضيق والستر من حيث لا أتوقع .
فى لحظات كتلك التى عايشتها بمفردي ..لا أظن أبدا أننى كنت أحلم أو أتمنى شىء يزيد عن (خيط وإبرة) لإصلاح ذلك التلف الذى حدث.
بالضبط كما هو حال الغريق الذى لا يريد من تلك الدنيا سوى أن يلامس جسده الشاطىء، أو مثل ذلك الظمآن فى تيه الصحراء والفيافى القاحلة كل ما يبغيه من هذه الدنيا هى شَربة ماء فقط. فتلك هى القيمة الحقيقية للأشياء التى ينبغي أن تترسخ داخل النفس الإنسانية.
قُلت أن الله قد أرسل لى بغيثه على الفور ففى تلك اللحظات أقف لأفكر ماذا أفعل ؟! ..هل اتصل بأحد ما ...أو أحاول أن أنادي على أى من المعلمات قبل أن ينصرف الجميع فلا يوجد خِيار أمامي إلا أن أفعل شيئا ما ...لكن الله جل فى علاه وتقدست أسماؤه لم يُمهلنى كى أفعل، بل هو الذى فعل وأرسل لى العون .طرقات على الباب !!! وما أجملها من طرقات أرجعت لى روحى التى كادت تفارقنى من شدة الضيق ،طرقات كنت أبغيها حتى لو من طفل صغير أو عابر سبيل .
طرقت الباب ودخلت تلك المعلمة الفاضلة لِتسأل عن مُعلمة الدراسات الإجتماعية ...كانت هذه أول مرة اتحدث فيها معها فهى كانت فى هذا العام جديدة فى المدرسة و لأنها من المعلمات ذوى تعاقدات الخدمة العامة فلم أكن أشاهدها كثيرا .
بالطبع لم يكن هناك وقت لكى أضيعه فعلى الفور عرضت عليها المشكلة فقالت لى بأنها تعرف معلمة مسيحية معنا دائما ما تضع فى حقيبتها إبرة وبكرة خيط.
وأسرعت تلك المعلمة الفاضلة مشكورة حتى تلحق بها قبل أن تنصرف وبالفعل أحضرت لى الإبرة وبكرة الخيط أظن أنها قالت من الأستاذة (نوسة ) ولها منى كل الشكر والعرفان .
وفى تلك اللحظة كأننى وقعت على كنز ثمين لا يقدر بثمن على الرغم أنه مجرد فتلة وإبرة إلا أن الأشياء تأخذ أهميتها ليس من قيمتها المادية بل بما تقوم به من منافع ووظائف على قدر إحتياجنا إليها .
فى ثوان قليلة قمت بحياكة نقابى بالقدر الذى يجعلنى فى مأمن حتى أصل للمنزل وشكرت المعلمة الفاضلة فهى صاحبة فضل كبير علىّ أنقذتنى من موقف لا يُحمد عُقباه.
ولو أنى أذكر أسمها لشكرتها هنا أو أشرت إليها إلا إنى للأسف نسيت الإسم بمرور الوقت فقد مضى على هذا الموقف أكثر من ثلاثة أعوام ولم أتذكر أننى قابلتها ثانية .
فقد أدركت قيمة الأشياء الحقيقة بعد ما تعرضت له وما قد تفعله فى لحظة من اللحظات، وظلت فى حقيبتى لأكثر من عام تحملت خلاله الوغز بالإبرة كلما بحثت عن شىء ما فى الحقيبة، حتى زال عنى رهبة الموقف وعاد إلى صدرى ذلك السلام النفسى فخرجت من حقيبتى إلى مكانها الطبيعى فى درج من الأدراج بالمنزل.
عندما أستعيد هذا الموقف فى ذاكرتى أتعجب من عظيم لطف الله وكرمه على عباده الذى ينجيهم فى البر والبحر من كل كرب وضيق فهو فقط القادر على أن يحول الحزن إلى فرح والآلام إلى سعادة والشك إلى يقين ويطمئن القلوب ويستر العيوب ويفرج الكروب ، فاللهم نسألك جميل الستر والرضا فى الدنيا والآخرة فنحن لا حول لنا ولا قوة بدونك يا الله.